samedi 21 juin 2008

الزمان في مجموعة "قنديل أمّ هاشم"

الزمان في مجموعة "قنديل أمّ هاشم"
عبد الوهاب الشتيوي
صفاقس ـ الجمهوريّة التّونسيّة
لقد شكّل الزّمان عنصرًا مهمًّا في الدّراسات السّرديّة لأنّه مثّل منذ فجر التّاريخ مسألة فلسفيّة، وقضيّة لخّصت صراع الإنسان مع الطّبيعة، وبحثه عن وجوده، ولأنّ القصّة لا يمكن أنْ تتنزّل إلاّ في إطار تاريخيّ ما، كما تستغرق حيّزًا زمنيًّا وهي تنجز خبرًا وخطابًا، والبحث في الزّمان في مجموعة أقاصيص "قنديل أمّ هاشم" جعلنا نفرّعه إلى زمن عام، وأزمنة خاصة، وزمن موضوعي وآخر نفسيّ:
I ـ الزمن العام:
هو الزّمن التّاريخي الذي يؤطّر الحكاية، وبه تنتسب إلى زمن معيّن، وهو ما يتوفّر في الكتابات الإبداعيّة التي تستقي أحداثها من التّاريخ المعلوم، وفي بعض الكتابات التي يعطي فيها الكتّاب بعض المؤشّرات الزّمنيّة الواضحة، وفي هذه المجموعة الأقصوصيّة لا وجود لأيّة علامات تربط النّصوص الحكائيّة بزمن تاريخي محدّد عدا الأقصوصة الأخيرة بيني وبينك حين قال الرّاوي: "العالم مضطرب، والمدافع تقصف، والدّماء تسيل. الدّور تخرّبت، والنّساء ترمّلت، والأرض أمّنا العجوز في اللّهيب".
[1] وحتّى هذه الإشارة لا تكفي لتحديد زمن المغامرة بدقّة لأنّ الحروب التي اندلعت في العالم أو في مصر مكان المغامرة كثيرة. فكيف السّبيل إلى تعيينه مادام الكاتب أو السّارد لم يقدّما لنا شيئًا.
نعتقد أنّه يمكن لنا أنْ نبحث عن بعض الإشارات الاجتماعيّة والواقعيّة والثّقافيّة لتحديد زمن المغامرة، فأقصوصة "قنديل أمّ هاشم" تدور أحداثها في مصر في زمن مازال النّاس فيها يعتقدون بكرامات الأولياء وآل البيت الأشراف، فيُزار مقام السيّدة زينب، ويؤخذ زيت قنديلها للمعالجة، وهو أيضًا زمن يُرسل فيه المصريّون إلى أوروبّا للتّعلّم، وهنا تكمن المفارقة، إذ يحافظ النّاس على الإرث الثّقافي المهترئ من جهة أولى، ويقبلون على ثقافة أوروبّا الحديثة من جهة ثانية، كما أنّنا نستنتج من خلال الأقصوصة أنّه من النّاحية الاجتماعيّة والاقتصاديّة زمن فقر وخصاصة ممّا يؤدّي بقطاع واسع من النّاس إلى التّسوّل والتّشرّد، وامتهان المهن الهشّة التي تكفل حياةً كريمةً، وبالتّالي نستنتج أنّه زمن عربي تقليدي بثقافته المزدوجة، واعتقاداته القديمة، وأحواله الاجتماعيّة البائسة.
II ـ الأزمنة الخاصة (الصّغرى):
1 ـ أطوار العمر:
أ ـ الطّفولة:
قد تكون هذه الفترة العمريّة هي الأقلّ حضورًا في أقاصيص مجموعة "قنديل أمّ هاشم"، باعتبار أنّ هذه الأقاصيص ارتبطت بأبطالٍ فعلوا في التّاريخ وأنجزوا أعمالاً وعاشوا مغامرات، وهم في مرحلة من النّضج الجسدي والفكري والنّفسي، وما يمكن ذكره عن الطّفولة هنا هو أنّها كانت بالنّسبة إلى الشّخصيّات فترة من السّذاجة والطّهر والانخراط في ثقافة الكبار ونظامهم الاجتماعي، فالشّيخ رجب عبد الله في الأقصوصة الأولى كان يدفع من قبل أبيه حين يصل إلى مدخل مسجد السيّدة زينب إلى تقبيل عتبته الرّخاميّة، وإسماعيل أُجبر من قبل الأب على حفظ القرآن، وخشي من دخول الأزهر لأنّه يخشى أنْ يلاحقه الصّبية يومًا مردّدين "الهتاف البذيء: شدْ العِمّة شدْ، تحت العِمّة قرد".
[2] ثمّ دخل المدارس الأمريكيّة وكان متأدّبًا صاحب حشمة وصبرٍ، وكان يزور مقام السيّدة يتعلّم إجلالها، فتوصى بحراسته، والرّاوي في "كنّا ثلاثة أيتام" مات أبوه قبل رؤيته فلم يشعر لسذاجته بجدوى حضوره أو غيابه، وسندنا في ذلك قوله "وهكذا وُلدتُ يتيمًا، ومع ذلك لست غريبًا عن أبي. كلّ مرّة أدخل فيها غرفة الاستقبال وتقع عينيّ على صورته الفوتوغرافيّة الشّاحبة معلّقةً على الجدار، أراه يبتسم لي ويكاد يناديني".[3]، والنّبيل "ع" في "القدّيس لا يحار" نشأ "في كنف العزّ وعاشر السّعداء، ولم تقع عينه على بؤس".[4]
ب ـ الشّباب:
لعلّ الشّباب هو الفترة الأكثر اعتمادًا في هذه الأقاصيص، واختلفت الأعمال فيه من أقصوصة إلى أخرى ومن شخصيّة إلى شخصيّة، فإسماعيل بطل "قنديل أمّ هاشم" عاش في شبابه في مكانين مختلفين، هما انقلترا للدّراسة، ومصر للعمل، وعاش ثلاثة أطوار مختلفة، عرف النّجاح في الدّراسة، ثمّ الفشل في علاج ابنة عمّه، ثمّ النّجاح من جديد وفتح العيادة، كما عرفت علاقته بالعائلة طورين مختلفين، فالطّور الأوّل توتّرت فيه علاقته بها ساعة عودته من انقلترا واكتشافه معالجتهم عيني فاطمة بزيت قنديل أمّ هاشم، وثورته إلى أنْ هجر البيت، أمّا الطّور الثّاني فقد مثّل عودة الوعي الدّيني إليه واستعادة الانسجام مع العائلة والعودة إلى المنزل، وصار الشّباب بالنّسبة إليه زمن العمل والعطاء والمساهمة في التّخفيف من شقاء النّاس وبؤسهم لمّا فتح العيادة، وكذا كان الأمر بالنسبة إلى الرّاوي البطل في "كنّا ثلاثة أيتام"، فقد مرّ هو الآخر بثلاثة أطوار، كان في الطّور الأوّل سعيدًا مع أختيه رغم وفاة أمّه ساعة توظّفه، وأصبح في الطّور الثّاني حائرًا يبحث عن عريسين لأختيه، ولعلّه عاد إلى السّعادة لمّا تزوّج ابنة الجيران في "غاردن سيتي"، وأرسل أختيه للإقامة مع إحدى خالاتهم.
لكنّ أمر الشّباب لم يكن على هذه الشّاكلة بالنّسبة إلى كلّ شخصيّات هذه الأقاصيص، فحسين فرغلي بطل "كنْ كان" لم يكن سعيدًا في شبابه باعتبار أنّه انفصل عن حبيبته آمال، وارتبط بابنة عمّه إحسان "قيامًا بواجب"
[5]، وتوظّفه بالتّعليم رغم أنّه "كان يودّ أنْ يكون محاميًا".[6] ومثله كان بطل "بيني وبينك" الذي يشعر بالتّيه والغربة بعد أنْ تلاعبت بعواطفه تلك الفتاة التي أحبَّ، أمّا بطل "القدّيس لا يحار" فلعلّه كان المختلف عنهم جميعًا لأنّه اختار عن وعي تام جعل فترة الشّباب انصرافًا عن دنيا النّاس إلى دنيا الله، والإقبال على التّزهّد والوعظ، بدل الإقبال على الحياة الدّنيويّة الماديّة
ج ـ الكهولة:
إنّ الشّخصيّات التي يمكن أنْ نقول: إنّها عاشت فترة الكهولة في هذه الأقاصيص قليلة لغياب التّحديد الزّمني الدّقيق، وتركيز الرّاوي في الغالب على مرحلة واحدة، ومن الشّخصيّات التي نرى أنّ عاشت فترة الكهولة في نصّ الحكاية، إسماعيل بطل الأقصوصة الأولى لأنّه عمّر دهرًا من الزّمن، حقّق فيه السّعادة، فقد ثابر في عمله واعتمد على "الله ثمّ على علمه ويديه فبارك الله له في علمه وفي يديه [...] وتزوّج إسماعيل من فاطمة وأنسلها خمسة بنين وستّ بنات".
[7]
وداود أفندي بطل "السّلحفاة تطير" لأنّ الرّاوي ذكر أنّ بينهما اختلافًا في السنّ، وفي هذه المرحلة تعرّض لمحنة القضاء وتكبّد المصاريف، وانقلب استقراره الذي كان يحقّقه بالجلوس أمام باب داره شقاءً، وبطل "كنْ كان" الذي يبدو أنّه عمل فترة من الزّمن في التّعليم حتّى أعلمه الطّبيب بضعف قلبه وخشيته عليه من كثرة الإجهاد، وأتاه الشّبح وأوهمه بقدرته على تحقيق أمنيتيه، ثمّ سرق منه الأمل وأرداه قتيلاً مبتسمًا من نفسه ساخرًا من قدره.
2 ـ أطوار الزّمن الطّبيعي:
أ ـ النّهار:
مثّل النّهار بالنّسبة إلى كلّ الشّخصيّات زمن الحركة والفعل، فهو زمن الدّراسة بالنّسبة إلى إسماعيل، وزمن العمل إلى إسماعيل وحسين فرغلي وراوي "كنْ كان"، وزمن التّسوّل بالنّسبة إلى المحرومين البؤساء في ميدان مقام أمّ هاشم، وزمن الوعظ والإرشاد بالنّسبة إلى النّبيل "ع". وزمن تجوّل الرّاوي البطل في أقصوصة "بيني وبينك" في الشّوارع وحيدًا في حالة من الأسى والحسرة.
ب ـ اللّيل:
إذا كان النّهار زمن الحركة الماديّة، فإنّ اللّيل كان زمن الحركة الذّهنيّة بالنّسبة إلى أغلب الشّخصيّات، فإسماعيل ثار على عقليّة العائلة وحطّم قنديل الستّ
[8] أمّ هاشم ليلاً، وبعد هروبه من البيت، كان في اللّيل "يظلّ واقفًا في الميدان، ساعات طويلة، سارح الذّهن، شارد اللبّ، تتسرّب إلى أذنه النّداءات القديمة. هي هي لم تتغيّر".[9] لكنّه تجاوز أزمة الشكّ والضّياع هذه، واستعاد إيمانه في ليلة القدر وشرع في معالجة ابنة عمّه بثبات كلّ ليلة حتّى أدرك النّجاح. وكان "حسين فرغلي" يخوض غمار الأسئلة الوجوديّة في اللّيل، ويغادر المقهى شاعرًا بالضّياع، ويستعيد شريط ذكريات النّدم، وفي اللّيل تحقّق حلماه، ثمّ غادر الحياة. وفي اللّيل أيضًا كان الرّاوي في "كنّا ثلاثة أيتام" يخطّط للظّفر بالزّوجين المناسبين لأختيه، فقال: "سهرتُ اللّيلَ أفكّر. وأنار الفجر ظلام اللّيل وبصيرتي".[10] أمّا بالنّسبة إلى بطل أقصوصة "بيني وبينك" فقد مرّت علاقته باللّيل بطورين مختلفين، إذ وجد في الطّور الأوّل السّعادة مع الحبيبة، ثمّ شقيًّا وحيدًا في الطّور الثّاني لمّا هجرته، وها هو يقول: "عندما كنتُ أخرج معك في هذأة اللّيل، كنتُ أشعر أنّنا وحدنا في هذا العالم ! تناستنا الأفلاك والنّجوم، نسينا اللّيل، نسينا النّاس. وكان في نسيانها أكبر اللذّة والسّعادة. أمّا اليوم، بعد اختفائك، فأسير والأفلاك والنّجوم لم تتغيّر، واللّيل مغمض الطّرف، والنّاس هم هم... فأجد في نسيانها أكبر الألم والعذاب...".[11]
3 ـ الدّيمومة الزّمنيّة:
إنّنا نقصد بهذا المصطلح المدّة الزّمنيّة التي استغرقتها الحكاية القصصيّة في الزّمن الفيزيائي الذي يقاس بالدّقائق والسّاعات والأيّام والشّهور والسّنوات، والمتأمّل في أقاصيص هذه المجموعة يلاحظ الفروق البيّنة بين أزمنتها من هذه النّاحية، وقبل الشّروع في تحليل هذه الأزمنة المختلفة سنرسم جدولاً ننطلق منه بعد ذلك في التّحليل:
الأقصوصة
المدّة الزّمنيّة
الصفة
1ـ قنديل أمّ هاشم
سنوات
طويل
2 ـ السّلحفاة تطير
شهور
متوسّط
3 ـ كنّا ثلاثة أيتام
سنوات
طويل
4 ـ كنْ كان
جزء من ليلة
قصير
5 ـ القدّيس لا يحار
جزء من نهار
قصير
6 ـ بيني وبينك
غير واضح
نفسي
إنّ هذا الجدول يمكّننا من تحليل أزمنة هذه الأقاصيص حسب ما يلي:
أ ـ الزّمن الطّويل:
تنتمي إلى هذا النّوع أقصوصتا "قنديل أمّ هاشم" و"كنّا ثلاثة أيتام"، فالأولى استغرقت حكايتها سنوات طويلة إذ امتدّت في الزّمن منذ أنْ كان أبو إسماعيل طفلاً إلى أنْ اكتهل إسماعيل وفتح عيادة واشتغل وفارق الحياة بعد مدّة من العمل شاء الرّاوي أنْ يتكتّم عنها، وإنْ شئنا هنا أنْ نختزل الزّمن الفعليّ لأحداث هذه الأقصوصة انطلاقًا من اعتبارها قصّة البطل المسمّى إسماعيل، وتجاوزنا المقدّمات المتعلّقة بالأب رجب عبد الله وأفراد العائلة، قلنا إنّه زمن يمتدّ ليتجاوز الثّلاثين من السّنين، فلقد رويت أحداثٌ متّصلة بإسماعيل في طفولته بين البيت والكتّاب والمدرسة الأمريكيّة والميدان ومقام السيّدة أمّ هاشم، وأحداث متّصلة به في مرحلة المراهقة ونيل شهادة البكالوريا، ثمّ رويت أحداث من فترة شبابه في الجامعة بانقلترا، وفي القاهرة بعد عودته مظفّرًا بشهادة في طبّ العيون، وصراعه مع العائلة ضدّ بركة زيت قنديل أمّ هاشم، وصراعه مع الرّمد يهاجم عيني ابنة عمّه، ثمّ انتهت بالإشارة إلى فترة من الكهولة بعد فتح العيادة ومعالجة المرضى.
وتقترب الأقصوصة الثّانية "كنّا ثلاثة أيتام" من الأقصوصة السّالفة الذّكر دون أنْ تدركها، فالرّاوي بدأ الحديث عن الأب المتزوّج حديثًا وانتظاره إنجاب الأبناء تتجدّد بهم شجرة العائلة، ثمّ يتحقّق الرّجاء، فيُرزق بنتين، دون أنْ يرزق الابن، ولمّا اقترب الحلم من التّحقّق يرحل عن الحياة، تاركًا الأمّ مع البنتين والابن الذي لم يره، وينصرف التّركيز على الابن حيث يلجأ الرّاوي إلى خلق الفجوة الزّمنيّة وإسقاط السنّوات، مارًّا إلى التّركيز على زمن محدّد وهو زمن يتعلّق بالرّواي البطل فترة شبابه، وهنا يضيق مجال الزّمن فلا نراه يتعدّى الأيّام أو الأشهر باعتبار أنّ الحدث تعلّق بنقل السّكنى إلى الحيّ الرّاقي "غاردن سيتي" بحثًا عن زوجين للأختين، وتحقّق الهدف النّقيض سريعًا بزواج الرّاوي من سنيّة ابنة الجيران الجدد.
فالكاتب هنا يتمكّن من اختزال فترة زمنيّة طويلة في حيّز قصصي قصير هو حيّز القصّة القصيرة، فينتقي ويختزل ويقصّر ويكثّف، ويختار من الأحداث أهمّها ليبني نصًّا قصصيًّا أهمّ خصائصه الاختزال والتّكثيف، وأهمّ علاماته الزّمنيّة الاختصار والفجوات والإسقاطات.
ب ـ الزّمن المتوسّط:
لا نجد ضمن هذا النّوع إلاّ أقصوصة واحدةً هي "السّلحفاة تطير" التي نعتبر أنّ أحداثها استغرقت شهورًا وهي المدّة التي رفع فيها البطل داود أفندي الدّعوى القضائيّة ضدّ الشّاويش الذي أهدر شرفه، وبقي يرتاد على المحكمة منتظرًا البتّ في القضيّة وإصدار الحكم، حتّى اكتسب خبرة قانونيّة، وأصبح مساعدًا المشتكين المقدّمين القضايا العدليّة بالاستشارة والمال، ويمكننا أنْ نستدلّ على اعتبارنا مدّة هذه الأقصوصة شهورًا بقول الرّاوي: "وكنتُ قد غبت عنه بضعة أيّام ـ ولعلّها أسابيع ـ ولمّا عدت إليه وجدته على القهوة إيّاها محاطًا بأصدقائه".
[12] ثمّ قوله: "حدث بعد ذلك أنّني نسيت جاري العزيز داود أفندي نسيانًا تامًّا [...] مضى عليّ في وظيفتي زمن، وذات يوم وأنا عائد من سوق الخضار...".[13]
والكاتب استطاع أنْ ينتقي فترة زمنيّة معيّنة من حياة داود أفندي جعلها مادّة حكائيّة لقصّته مع الحياة، لقد ألغى ـ بناءً على شروط القصّة القصيرة ـ كلّ ما سبق وما لحق من حياته، وركّز على هذه الحادثة بعينها، وما كان لها من كبير أثرٍ في علاقته بالمجتمع والقضاء والرّاوي، فهذه الفترة الزّمنيّة التي استغرقتها هذه الحكاية والتي رأيناها شهورًا، تفسّر لنا قيمة الاختزال في الزّمن بالنّسبة إلى عالم القصّة القصيرة، لأنّها تمثّل قطعة من الحياة، أو لحظة اجتماعيّة تؤخذ من عالم حياة شخصيّة ما، لإبراز دور الزّمن في فترة زمنيّة صغرى في إحلال السّعادة أو التّعاسة بالنّسبة إلى الإنسان الذي قُدّر له أنْ يتصارع مع الزّمن حينًا ويتصالح معه حينًا آخر.
ج ـ الزّمن القصير:
إنّ هذا النّوع من النّوع والذي سمّيناه قصيرًا هو تلك الفترة الزّمنيّة التي لا تتجاوز من حيث حيّزُها بعض يوم أو ليلة، وربّما ساعة أو بضع دقائق، وهو ما نلمحه في أقصوصتي "كنْ كان" و"القدّيس لا يحار"، فالأقصوصة الأولى دارت أحداثها ذات ليلة لمّا خرج البطل الموسوم بحسين فرغلي من المقهى أين التقى زملاءه، وشاهد لعبهم المُكرّر العبثي، وأخذ يشقّ الشّوارع متّجهًا إلى شبرا "وهو حين يشعر باللّيل يحجبه عن الأنظار، يلذّ له أنْ يحتضن أفكاره، ويختلي بها، فيسرح ذهنه، وتعود إليه ذكريات قديمة".
[14] فتذكّر "كيف ألقى بنفسه في مدرسة المعلّمين وهو كاره لها، وكيف نكص عن الزّواج بجارته آمال؟ تلك الفتاة التي خلبت لبّه وسحرته، ورضي بالزّواج من إحسان".[15] وتمنّى العودة إلى الماضي لتحقيق الأماني، فطلع عليه شبح وتحاور معه ومكّنه من طلبه، وتحقّق له ذلك عند حلول السّاعة الصّفر من تلك اللّيلة نفسها، فوجد نفسه مع آمال، ولعب معها، وما كاد ينعم حتّى وجد نفسه شاكيًا هذه الحياة الجديدة، فعاد إليه الشّبح في زمن قياسي ليخلّصه من هذه الحياة الجديدة أيضًا ويسلمه إلى الموت، إنّ كلّ هذه الأحداث تقع قبل منتصف اللّيل بقليل وبعيده، لتبرز لنا أنّ عمر الإنسان إذا ما قيس بزمن الحياة الطّويل قصير مهما يطل، وأنّ الزّمن هو المصارع الأوّل له، وهو سرّ النّجاح والفشل، وسرّ السّعادة والشّقاء.
والأقصوصة الثّانية تدور أحداثها ذات نهار، بعد أنْ أشار السّارد إشارة خاطفة غير معمّقة إلى شابّ اختار حياة القدّيس منصرفًا عن حياة النّاس الماديّة، واعظًا إيّاهم، لقد اختار السّارد يومًا من أيّام القدّيس المتكرّرة، إذ قال: "وفي يوم مرّ القدّيس وحاشيته على قصر منيف".
[16] فدخل القصر واعظًا حتّى أقنع الجميع بصدق قوله وحكمة رأيه، ثمّ غادر القصر مطمئنًّا، فكأنّنا إذن أمام جزء من قصّة نعبّر عنه بنوع من السّرد يسمّى "المشهد"، فقد نقل الحوار بتفاصيله وكأنّ هناك تساويًا بين زمن الخبر وزمن السّرد، فالسّارد هنا يقدّ حكاية القصّة من زمن وجيز، ويتمكّن من صنع الكثير من القليل، فيركّز مدار الخبر على لحظة زمنيّة هاربة قد لا ينتبه إليها النّاس، أو قد ينتبهون إليها ولا يعيرون إليها اهتمامًا، فكأنّه يريد أنْ ينظر إلى الزّمن نظرة فلسفيّة مفادها أنّ الزّمن الذي يعيشه الإنسان، يُصاغ من وحدات زمنيّة صغرى ودنيا، فينبغي أنْ لا يفوتنا الاهتمام بالأدنى بقدر اهتمامنا بالأقصى. إنّها حسب رأينا فلسفة الشّعور بالزّمن ووطأته ووجوب استغلال جميع وحداته ومكوّناته.
د ـ الزّمن غير الواضح:
إنّنا نقصد بهذا المصطلح ما رأيناه في الأقصوصة الأخيرة الموسومة بـ"بيني وبينك" والتي اعتبرناها في مبحث سابق من القصّ النّفسي، لأنّ كلّ ما فيها صادر عن الذّات راجع إليها، فهناك راوٍ يحدّث فتاةً غير متجسّدة وغير منظورة، وكأنّه في الحقيقة يحدّث نفسه، ويذكر ما كان بينها وبينها من علاقة مضطربة غير متماسكة نتيجة مماطلاتها، فلا يعيّن زمنًا محدّدًا لهذه العلاقة إلاّ بما نستنتجه من اعتماد الفعل الماضي في مثل قوله: "كمْ من مرّة قطعتُ هذا الطّريق معك، ذراعك في ذراعي، فما شعرتُ أطويل طريقنا أم قصير، أفي يومنا المسير أمْ في غدٍ لم يأتِ بعد، أمْ هو في ماضٍ من العمر قد ولّى وفات".
[17] ولا يحدّد الفترة الزّمنيّة التي استغرقتها هذه العلاقة، أو الفترة الزّمنيّة التي مرّت على انقضائها، بل إنّ هناك من الملفوظات ما يحدث الإرباك فينا من قبيل قوله: "نقلتِ إليّ أنّ خالتك، أو تلك التي تزعمين أنّها خالتك، حدّثتك عنّي بالأمس وقد تركتكما في العربة".[18] فهذا الملفوظ لا ينبئنا عن زمنيّة لفظة "أمس"، هل هو الأمس انطلاقًا من يوم اللّقاء الذي جاء بعده في الزّمن، وكلاهما ماضٍ سابق لزمن التّلفّظ السّردي، أمْ هو الأمس انطلاقًا من لحظة التّلفّظ وهي الآن، إنّ تحديد الزّمن في هذه الأقصوصة يعدّ بالنّسبة إلينا من قبيل الرّقم على الماء أو الحرث فيه، فلا علامات نصيّة واضحة تنبئ عنه بشيء، ونعتبر أنّه من القصّ النّفسي (Le psyco-récit) [19] حيث تنتفي الحدود بين الأزمنة، وتتداخل في ما بينها، ويصبح المتلفّظ كائنًا في زمن واحد هو زمن التّلفّظ دون اعتبار أزمنة الأحداث المختلفة التي يذكرها، وبالتّالي يمكننا أنْ نتجاوز البحث عن زمن الأحداث المرويّة في هذه الأقصوصة، لنهتمّ بزمن واحد وهو زمن التّلفّظ الذي تنجز فيه الشّخصيّة البطلة الرّاوية ملفوظها متعلّقة بزمن آخر قديم هارب منها، ونرى بالتّالي أنّ الأهمّ هنا هو ما تعيشه الشّخصيّة في هذه اللّحظة من ألم وانكسار وربّما أسى وحسرة على ما فات، أو على تعلّقه بفتاة وهميّة، وشعوره بالمرارة لأنّه يرى نفسه الآن مغفّلاً بالفعل، وكان بالأمس عاشقًا بالقوّة، فالزّمن في هذه الأقصوصة يتحدّد من الدّاخل أيْ العالم الباطني للشّخصيّة الرّاوية القائم على الإحساس الفرديّ والمشاعر الذّاتيّة، وليس من الخارج أيْ العالم الفيزيائي القائم على المواضعات المتّفق عليه من قبل جميع النّاس في ثقافة ما، أو في العالم كلّه.
III ـ السّمات الزّمنيّة:
1 ـ الزّمن الموضوعي:
إنّه الزّمن الفيزيائي تنجز فيه الشّخصيّات أعمالها وتؤدّي أدوارها وتعيش مغامرتها في الحياة، وهو زمن واقعي تتعامل فيه الشّخصيّات مع أحداث واقعيّة، وتتعايش مع شخصيّات واقعيّة ذات سماتٍ بشريّةٍ، فإسماعيل في "قنديل أمّ هاشم" عاش في زمن واضح المعالم والسّمات الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة والعقائديّة، هو زمن ينتشر فيه الفقر وتقترب فيه الخصاصة من كلّ الشّرائح، ويحتاج فيه الآباء إلى قطع دراسة الأبناء وتشغيلهم معهم في المتاجر والورشات الصّناعيّة، ويؤمن فيه النّاس بكرامات الأولياء السّابقينَ النّاسَ بالإيمان والإحسان، ويتطلّعون فيه إلى أوروبّا منارة العلم والثّقافة، لكنّ العلم هو مورد رزق ومال لا تثقّف وتنوير. وفي "كنّا ثلاثة أيتام" هو زمن واقعي عربي إسلامي تتداخل فيه العلاقات بين الأهل والأقارب، ويتدخّل الجميع في شؤون بعضهم بعضا، وتصبح مسألة تزويج البنت والخوف من العنوسة مسألة مصيريّة مهمّة، وينتظر فيها الأب إنجاب الولد لأنّه سيكون وريث العائلة وإنْ لم تكن صاحبة أمجاد أو أموال، وهو نفسه الزّمن الموضوعي الذي دارت فيه أحداث أقصوصة "السّلحفاة تطير"، باعتبار مسألة الصّراع مع ممثّلي السّلطة السّياسيّة، وبطء عمل القضاء إذ لا يبتّ في القضايا إلاّ بعد عدد من الشّهور يشعر المتقاضي بالملل والظّلم وغياب العدل.
2 ـ الزّمن الذّاتي:
نلحظه حين تغيّر الشّخصيّات موقفها من الزّمن أو من ظواهر الحياة المختلفة، فتغوص في ذواتها، وتحاور نفسها، وتعلن سرّها المكتوم الذي لا تفصح عنه لأحد غير نصفها المحاور، باعتبار أنّ الإنجاز يتجلّى في الحوار الباطني المنقول والحوار الباطني المسرّد (Le monologue rapporté et le monologue narrativisé)، وهو زمن ذاتي مقاييسه غير موضوعيّة لأنّ الشّخصيّات تنظر إلى الأشياء نظرة ذاتيّة، ويؤكّد الصّادق قسّومة رأينا هذا بقوله: "ليس هذا الزّمن إطارًا يكتنف الأحداث، ولا هو "محطّة" من محطّات المغامرة، وإنّما هو الزّمن في مستوى إحساس الشّخصيّة به على نحو مخصوص، وهذا الإحساس متّسم عادة بالتّعقّد (الشطّ أحيانًا) وقابل للتّنوّع بسبب اختلاف المستويات التي يمكن أنْ يتّصل بها في ذات الشّخصيّة، وبسبب تباين الطّرائق في التّفاعل معه [...] ويزداد حظّ هذه الذّاتيّة (في التّفاعل مع الزّمن) أهمّيّة إذا نأت الممارسة عن "التّدبّر الفكري"، واقتربت من الانفعال الوجداني أو العاطفي".
[20] وهذا التّحديد سيجعلنا نبحث في كيفيّة إحساس شخصيّات هذه الأقاصيص بالزّمن، لا في كيفيّة تعاملها مع الزّمن الموضوعي، فإسماعيل في "قنديل أمّ هاشم" كره حياته بعد العودة من أوروبًا مباشرة حين وقف أمام باب منزلهم ونظر إلى الحارة فوجدها وسخة قذرة، وحين دخل المنزل استغرب الحياة فيه، وحين اصطدم بزيت القنديل ذي المفعول السّحري فكّر في الهروب من هذا الزّمن الثّقافي الرّديء والعودة إلى أوروبّا أين يوجد زمن التّطوّر والحداثة. وحسين فرغلي في "كنْ كان" كره حاضره ويودّ العودة إلى الماضي لعلّه يتدارك ما فاته، فهو إذنْ لا ينظر إلى الزّمن نظرة موضوعيّة، فيعتبر نفسه محظوظًا لأنّه صاحب مهنة شريفة خالدة في التّاريخ وهي مهنة التّدريس[21]، وصاحب زوجة وفيّة مخلصة أقصى مناها إرضاؤه، بل ينقم على ما آل إليه أمره، ويشعر باللّيل أنيسه الوحيد فيفصح له عمّا في قلبه من هموم وأنواء، لكنّ ذلك يتجلّى حين يكون وحيدًا فهو يكره النّهار لأنّه زمن مهنة التّدريس الشّاقّة غير المدرّة للمال الوفير، ويكره اللّيل لأنّه زمن العودة إلى الزّوجة التي فقد التّواصل العاطفي المتوهّج معها، ويتجلّى الزّمن النّفسي كأروع ما يتجلّى في الأقصوصة الأخيرة "بيني وبينك"، فالرّاوي البطل فيها كما رأينا سابقًا لا يعيّن للأحداث أزمنة محدّدة في التّاريخ، بل إنّ كلامه فيض خواطر متداخلة الأزمنة ولا رابط بينها إلاّ العلاقة المتوتّرة بتلك الفتاة اللّعوب، فتصبح علاقته بالزّمن علاقة نفسيّة موغلة في الذّاتيّة، ويكون كلّ المروي منطلقًا من الذّات، والتّقويمات تفقد موضوعيّتها، وها هو يقول مقارنًا بين الماضي والحاضر: "كان الطّريق هو الذي يقبل إليّ، يأخذ بيدي، ويريني اتّصاله بالأفق، بالسّماء، بالأفلاك.. على جانبيه دور هادئة المأوى كصدور الحاضنات، ويمرّ بنا أناس كلّ منهم شعاع من نور الله.. أمّا الآن، بعد اختفائك، فهذا الطّريق بعينه أقطعه وحدي فلا ينتهي، المسير سخرة، والأفق قيد، والسّماء غطاء، والنّجوم ترمق الأرض شزرًا.. الدّور سجون، والنّاس أطياف ذاهلة لا تدري ما القدر، وإنْ شكتْ كفرتْ".[22] فأيّ ذاتيّة بعد هذا الكلام الذي يحمل موقفين متناقضين من الزّمن، فتنتفي كلّ موضوعيّة يدّعيها الإنسان، أو يدّعي تأسيسها في الوجود؟ وإنّا لنرى مسيرة الإنسان في الكون أطوارًا من الذّاتيّة لا تنقطع، بل لعلّها تتلوّن ألوانًا، وتتّخذ أشكالاً.
IV ـ علاقة الشّخصيّات بالزّمن:
يمثّل الزّمن منذ الثّقافة اليونانيّة قضيّة فلسفيّة شغلت الإنسان فعبّر عنها في مختلف فنون الأدب، وهو ما دفع بعض الكتّاب العرب في العصر الحديث، إلى التّعبير عنها في آدابهم لعلّ توفيق الحكيم أهمّهم
[23]، ولئن سعت الأديان السّماويّة إلى عقد التّصالح مع الزّمن بتخفيف الإحساس بحدّة وطأته على الإنسان، بالوعد بحياة هنيئة متجرّدة من التّحديد الزّمني الصّارم، فإنّ النّظرة إليه والعلاقة به ظلّتا متراوحتين بين التّواصل والتّصادم، وهو ما نلحظة في هذه المجموعة الأقصوصيّة، وعليه يكون البحث:
1 ـ تواصل الشّخصيّة مع الزّمن (التّآلف والانسجام):
يعيش الإنسان ضمن عالم محدّد بأطر زمنيّة أدناها الثّانية (Seconde)، وأقصاها السّنة والعقد من السّنوات، ولمّا كان الإنسان كائنًا فاعلاً في التّاريخ في بعض الأحيان، فإنّه يحقّق معه التّواصل والتّآلف فينجز فيه سعادته، وهو ما لاحظناه في أقصوصة "قنديل أمّ هاشم" لمّا استطاع إسماعيل أنْ يعيش سنواتٍ عديدة مستمتعًا بالدّراسة، متابعًا لها مقارنة بإخوته المنقطعين عنها المحرومين منها، محقّقًا النّجاح تلو الآخر مدخلاً البهجة إلى قلوب أفراد العائلة والحارة، وحتّى لمّا فشل في تحقيق المجموع الذي يؤهّله للدّخول إلى كليّة الطبّ، خدمه القدر لمّا هيّأ أمام أبيه شخصًا ينصحه بإرساله إلى أوروبّا لتحقيق الأمنية، فيُرسل وينجح بعد سبع سنوات عاش في السّعادة أيضًا مع الصّديقة "ماري"، ومع الأساتذة الفخورين به، ويعود إلى البلد طبيبًا يفتخر به جميع منْ يعرفه، وتتعمّق سعادته في البداية لأنّه عاد إلى الوطن، والأهل، ولنْ يُنظر إليه بعد اليوم باعتباره إسماعيل ابن التّاجر البسيط رجب عبد الله. كما تأقلم مع الزّمن بعد أنْ نجح في معالجة عيني ابنة عمّه فاطمة، وفتح العيادة.
وتآلف بطل "كنّا ثلاثة أيتام" مع الزّمن لمّا وجد نفسه يعيش سعيدًا بين أختيه رغم يتمهم المطلق، حتّى أنّه افتخر على زملائه المتزوّجين لأنّه لا يعرف مشاكلهم مع الزّوجات والأبناء، فلنستمع إليه يصوّر سعادته: "فمنْ مثلي من الرّجال تحوطه فتاتان ـ لا فتاة واحدة ـ بكلّ ما في وسعها من عناية وإخلاص؟ لا تقلّ ملابسي هندامًا ولا أكلي جودةً عن زملائي المتزوّجين، دون أنْ أدفع ثمن هذه النّعمة بالكدر والهمّ والضّيق الذي أتبيّنه على وجوههم كلّ صباح في المكتب.. كانت نفسي قانعةً وجسمي سعيدًا".
[24]
أمّا حسين فرغلي فإنّ تآلفه مع الزّمن كان محدودًا ضيّقًا، باعتبار أنّ تحقّق أمنيتيه لم يعمّر إلاّ بعضًا من اللّيلة قصيرًا جدًّا لعلّه لا يتجاوز السّاعة.
2 ـ تصادم الشّخصيّة مع الزّمن (التّخالف والصّراع):
لعلّ صراع الشّخصيّات مع الزّمن كان الأبرز في هذه المجموعة الأقصوصيّة، رغم ما قلنا عن لحظات التّآلف والانسجام، فإسماعيل في الأقصوصة الأولى قد أحسّ بالانفصال عنه لمّا رآه زمنًا ثقافيًّا تقليديًّا مخالفًا عن ذلك الزّمن الذي عاشه في أوروبّا، واصطدم بأفكار أهله الرّجعيّة، وداود أفندي قلب الزّمن راحته إلى توتّر وخوف، ونقله من الحارة المريحة التي كان يجلس فيها أمام بيته، إلى المحكمة المحيّرة التي يقاضي فيها الشّاويش، كما فرّق الزّمن بينه وبين جاره الرّاوي، وحسين فرغلي يتصادم مع الزّمن الذي حرمه من تحقيق مهنة أفضل من مهنة التّدريس، وحرمه من الارتباط بالمرأة التي أحبّها، ثمّ أوهمه بتحقيق ذلك لمّا تبرّع له بعشر سنوات من عمره، وحرمه من جديد وجعله يفارق الحياة مبتسمًا ابتسامة السّخرية من قدره المشؤوم، وانقلب الإحساس بالزّمن أيضًا في أقصوصة "كنّا ثلاثة أيتام" لمّا اكتشف البطل مسألة الزّمن بلفت الأقارب نظره إلى ضرورة تزويج أختيه خوفًا من تقدّم العمر، وكذا كان شأن علاقة الرّاوي بالزّمن في الأقصوصة الأخيرة "بيني وبينك"، فهو زمن متقلّب خدّاع وضع أمامه امرأة لعوبًا لا عهد لها تحفظه، ولا أمانة لها ترعاها.
إنّ هذه العلاقة المتوتّرة بين الشّخصيّات والزّمن، والصّراع الدّائر بينهما يجعلاننا نقرّ بطابع التّراجيديّة الذي يمكن أنْ تنضوي ضمنه هذه المجموعة الأقصوصيّة، وما التّراجيديّة في نظرنا إلاّ صراع بين الإنسان والكائنات الخفيّة، شكّل الزّمن أهمّها منذ فجر التّاريخ، وعبّر عنها الفكر الإنساني منذ الحضارة الإغريقيّة، وأغلب أبطال هذه الأقاصيص خاضوا الصّراعات مع الزّمن ورأوه هادم اللذّات، ومبدّل الأحوال، و"منْ سرّه زمن ساءته أزمان".
3 ـ الشّخصيّة لا تشعر بالزّمن (الحياد):
نقصد بهذا المصطلح أنّ علاقة الشّخصيّة بالزّمن لا تقوم على الصّراع أو التّصالح، وكأنّ الشّخصيّة لا تعير الزّمن اهتمامًا، فلا تشعر بوطأته وتتمكّن من التّخلّص من تاريخيّته وعبئه، وهذا النّوع يتوفّر في أقصوصة "القدّيس لا يحار"، فالنّبيل "ع" تحلّل على طريقة الرّاهب المسيحي والمتصوّف المسلم من الدّنيا وزمنها وكلّ مظاهرها الماديّة، وانصرف إلى الزّهد وعالم التّصوّف، وهو عالم لا يهتمّ فيه المريد بحركيّة الزّمن، فلا يشعر بالسّاعات والأيّام والشّهور، ولا يفرّق بين اللّيل والنّهار، إذ لا يحدّد أزمنة للتّعبّد وأخرى للعمل والسّعي، ألم يتنازل عن نصيبه من ميراث أبيه لأخيه، وترك له كلّ الممتلكات، وراح يدعو النّاس إلى الكفّ عن الملذّات والشّهوات، وإخراس صوت الغرائز الدّنيويّة، وأضحى داعيةً يعظهم إلى عمل الخير والإحسان، ولم تستطع تلك الفتاة في قصر الثّريّ جلب نظره لجمالها، ولم يستطع الثّري أنْ يغريه بحياته المترفة، وسعادته بين زوجه وأبنائه وخدمه، بل لعلّه لم يزدد من الدّنيا إلاّ نفورًا، وهو ما أكّده الرّاوي بقوله: "لم ينقص إيمان القدّيس ذرّةً، ولم يهتزّ لحظةً، فكيف يكون قدّيسًا إذا بدت المسائل كما تبدو لبقيّة النّاس متناقضة مضطربة، مضحكة مبكية؟ لهؤلاء القدّيسين نظرة تشمل الكون وتفهم الأسرار، فما يبدو عجيبًا هو ذات الحكمة، وما يبدو متناقضًا هو عين الاتّساق".
[25]
[1] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 105.
[2] ـ م، ن: ص 4.
[3] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 62.
[4] ـ م، ن: ص 86.
[5] ـ م، ن: ص 73.
[6] ـ م، ن: ص 74.
[7] ـ م، ن: ص 47.
[8] ـ الستّ كلمة عربيّة فصيحة، وقد جاء في "رسالة الغفران" للمعرّي على لسان ابن القارح في ص 260 عن دار المعارف تحقيق د. بنت الشّاطئ:
ستِّ إنْ أعياكِ أمرِي فاحملِينِي زقفونهْ
[9] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 41.
[10] ـ م، ن: ص 65.
[11] ـ م، ن: ص 104.
[12] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 58.
[13] ـ م، ن: ص 59.
[14] ـ م، ن: ص 73.
[15] ـ من ن: ص 73.
[16] ـ م، ن: ص 88.
[17] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 94.
[18] ـ م، ن: ص 95.
[19] ـ يعرّفه "ريني ريفار" بقوله: «Le psyco-récit est la technique narrative qui permet à un narrateur anonyme de raconter une histoire complexe et de diriger un nombre important de personnage tout en donnant au lecteur un certain minimum d’information sur les pensées et les sentiments de ces personnages, sans lequel les événement qui les concernent perdraient de leur signification », René Rivara, La langue du récit, p 191.
[20] ـ طرائق تحليل القصّة، ص 50.
[21] ـ يقول الكاتب المصري الرّاحل يوسف إدريس (1927ـ 1991: "أقصى المجد أنْ يصبح الإنسان معلّمًا".
[22] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 94.
[23] ـ لتوفيق الحكيم مسرحيّة "أهل الكهف" ولميخائيل نعيمة رواية "اليوم الأخير" اللّتان تناولتا مسألة صراع الإنسان مع الزّمن.
[24] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 63.
[25] ـ يحيى حقّي: قنديل أمّ هاشم، ص 92.

jeudi 29 mai 2008

توصيف المادة



تعتبر الحصّة الأولى التي يلتقي فيها الأستاذ مع تلامذته في بداية السّنة الدّراسيّة حصّةً تأسيسيّة، فعليها يُبنى برنامج العمل الذي يسعى إلى السّير على منواله طوال تلك السّنة، مع التّعديل والتّحسين كلّما تطلّب الأمر ذلك، لاسيّما وأنّ العمليّة الدّراسيّة ليست عملاً محنّطًا متحجّرًا، بل إنّ الأستاذ ليجد نفسه مضطرًّا باستمرار إلى إعادة النّظر في مسائل عديدة، وذلك نظرًا لمستوى القسم الذي يدرّسه، أو بعض التّلاميذ المتميّزين أكثر من غيرهم، والتّلاميذ الذين هم في درجة أقلّ من زملائهم ويحتاجون إلى عناية خاصة، وإلى برنامج عمل خصوصي، فالأستاذ يحتاج إذنْ إلى ضرورة التّعرف إلى أولئك المتعلّمين الذين يجلسون أمامه منتظرين التّعرّف إلى ملامح هذا الكائن البشري والتّعليمي والمعرفي الذي سيتعاملون معه هذه السّنة، ويطلبون منه الإضافات والإفادات، ويريدون التّعرّف إليه من قريب، ويجمعون عنه معلومات إنْ كانوا لا يعرفونه، أو يختبرون المعلومات التي يعرفونها عنه من زملائهم السّابقين، ولكي يكوّن الأستاذ فكرة أوّليّة عن تلاميذه في الحصّة الأولى فهو يسأل كلّ واحد منهم عن اسمه ولقبه ومقرّ سكناه ووالديه ووظيفتيهما، ويمكنه أنْ يسأله عن الأستاذ الذي درّسه المادة المعنيّة في السّنة الماضية، ومستواه العلمي فيها، ولابدّ أنْ يقترب من مكان جلوس التّلميذ حتّى لا يشعره بالتّعالي والتّفوّق الاجتماعي ولكنْ مع المحافظة على الأدوار الطّبيعيّة والالتزام بآداب التّعامل التي يفرضها قانون المؤسّسة التّعليميّة، وعادات المجتمع وعاداته التّربويّة والسّلوكيّة، والإبقاء على لباقة التّعامل وبيداغوجيا التّواصل مع الآخر، والأخذ بعين الاعتبار المرحلة العمريّة التي يمرّ بها ذلك المتعلّم، ومن الضّروري أيضًا أنْ يكوّن الأستاذ فكرة أوّليّة عن المستوى الاجتماعي للتّلاميذ حتّى لا يحرج ذوي الامكانيّات المحدودة ببعض الطّلبات التي لا يقدرون عليها، كأنّ يكلّفهم بإنجاز بحوث على الكمبيوتر واستخراج الوثائق من الأنترنات.
كما أرى أنّ الأستاذ لابدّ أنْ يشعر التّلاميذ بالأمان وهم معه في حصّته لاسيّما وأنّ المسيرة ستكون طويلة نسبيًّا معهم، فهم سيقضّون معه تسعة أشهر كاملة، كما لابدّ عليه أنْ ينبّههم إلى آداب التّعامل التي يجب الحفاظ عليها حتّى يُحترم الدّرس ويصان المدرّس وتُقدّر المدرسة حقّ قدرها خاصة في هذا العالم المتغيّر الذي بدأت فيها القيم تتشكّل تشكّلاً جديدًا، لا بدّ للمدرّس أنْ لا يظهر أمام تلاميذه في صورة الدّيكتاتور الذي لا يؤمن إلاّ بسلطته، وينفّذ القوانين المدرسيّة بحذافرها، ولا يتجاوز بعض الأخطاء والهفوات إنْ أمكن له تجاوزها، وهو الجدّي الحازم الذي لا يسمح بابتسامة أو ضحكة عابرة أو التفاتة أو تعليق ما في غير محلّه، أو تأخّر تلميذ عن موعد بدأ الحصّة، أو عدم إنجاز أحدهم الواجب المدرسي المكلّف به، لابدّ أنْ يكون الأستاذ ليّنًا ما أمكنه ذلك دون أنْ يفقد هيبته واحترام المتعلّمين له، ويجب أنْ ينبّههم إلى أنه سيغضّ النّظر عن بعض تصرّفاتهم حبًّا لهم واحترامًا لكيانهم البشري ومراعاة لظروفهم الاجتماعيّة والنّفسيّة ومرحلتهم العمريّة والذّهنيّة، فالأستاذ يمكن أنْ يقبل قدوم تلميذ ما متأخّرًا عن موعد بدأ الحصّة بعشر دقائق لأنّه يدرك مشكلة المواصلات في مدننا في الصّباح، دون أنْ تصبح تلك عادته كلّ يوم. كما على هذا المدرّس أنْ يحذر الظّهور أمام التّلاميذ في صورة الشّخص الذي لا يولي القوانين الاجتماعيّة والمدرسيّة والتّربويّة أيّ اعتبار، وهو المتساهل مع الجميع على الدّوام، لأنّ ذلك من شأنه أنْ يعطي للتّلاميذ فكرة مغلوطة عنه شخصيّة الأستاذ، وسيستهينون به وبمادته وبالبرامج الدّراسيّة التي ينجزها، بل لعلّ بعض التّلاميذ يرونه مازحًا غير جدّي، متسيّبًا غير حازم، لاهيًا غير مهتمّ بوظيفته، إنّ عليه في هذه الحصّة الأولى أنْ يشعرهم أنّه سيكون صديقهم وعونهم وسندهم في كلّ شيء إذا ما قدّروا ذلك، كما يمكن أنْ يكون الجلاّد إذا لم يُحكموا آليّات التّعامل معه، وحاولوا التّطاول وتجاوز آداب التّعامل وفروقات الدّرجات العلميّة والعمريّة.
ثمّ وبعد الخطوة السّابقة الذّكر والتي أعتبرها مهمّة جدًّا يعطي فكرة عن محتوى المادة، وفروعها ومحاورها المختلفة، والطّريقة التي سيعتمدونها في التّعلّم وتحصيل المعارف، ويشير إليهم بضرورة أنْ يكونوا المساهم الأوّل في العمليّة التّعلّميّة (L’aprantissage)، لأنّ التّعليم في المدرسة الحديثة لم يعد قائمًا على مدرّس يُلقي المعارف ومتعلّم يتلقّى ويستهلك ثمّ يعيد ما تعلّم يوم الاختبار، ولم يعد أنجب النّجباء هو ذلك الذي يحسن إعادة المادة كما أُلقيت عليه، ولم يعد أحسن الأساتذة هو ذلك الذي يملك زادًا معرفيًّا أكثر من غيره، إنّ أحسن الأساتذة اليوم وحسب تجربتي في المعاهد الثّانويّة وفي مناطق مختلفة ومع مستويات تعليميّة متنوّعة، ومستويات اجتماعيّة متعدّدة هو ذلك الشّخص الذي يُحسن التّعامل مع كلّ أصناف المتعلّمين ومن مختلف الشّرائح، كما يُتقن بيداغوجيا التّواصل جيّدًا، ويُحسن تقديم المعلومات ويُكيّفها ويُبسّطها، ويُيسّر عمليّة التّمدرس بصفة عامة، ويرتقي بكلّ المستويات، كما يقنع الأستاذ المتعلّمين بأنّه على استعداد دائمًا إلى ابتكار الطّرق التّعليميّة من أجل تحقيق المصالح المشتركة، وتجديدها والبحث عن أفضلها، فهو ليس أستاذًا خشبيًا لا يتغيّر، أو دينصورًا يفرض نفسه على الآخرين. إنّ الأستاذ في الحصّة الأولى يحدّد أهداف برنامجه للتّلاميذ بوضوح، ويقدّم لهم صورة شفّافة عن نفسه حتّى لا يخطئوا في التّعامل معه، ويجمع صورًا أوّليّة لهم حتّى يدرك ما هو مقدم عليه في قادم الأيّام
.